فصل: يوم عين أباغ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر الحرب بين الحارث والأعرج وبني تغلب:

قال أبو عبيدة: إن بكراً وتغلب ابني وائل اجتمعت للمنذر بن ماء السماء، وذلك بعد حربهم، وكان الذي أصلح بينهم قيس بن شراحيل ابن مرة بن همام، فغزا بهم المنذر بني آكل المرار، وجعل على بني بكر وتغلب ابنه عمرو بن هند، وقال: أغز أخوالك. فغزاهم، فاقتتلوا، فانهزم بنو آكل المرار وأسروا، وجاءوا بهم إلى المنذر فقتلهم.
ثم انتقضت تغلب على المنذر ولحقت بالشام، ونحن نذكر سبب ذلك في أخبار شيبان إن شاء الله، وعادت الحرب بينهم وبين بكر، فخرج ملك غسان بالشام، وهو الحارث بن أبي شمر الغساني، فمر بأفاريق من تغلب، فلم يستقبلوه. وركب عمرو بن كلثوم التغلبي فلقيه، فقال له: ما منع قومك أن يتلقوني؟ فقال: لم يعلموا بمرورك، فقال: لئن رجعت لأغزونهم غزوة تتركهم ايقاظاً لقدومي، فقال عمرو: ما استيقظ قومٌ قط إلا نبل رأيهم وعزت جماعتهم، فلا توقظن نائمهم. فقال: كأنك تتوعدني بهم، أما والله لتعلمن إذا أجالت غطاريف غسان الخيل في دياركم أن أيقاظ قومك سينامون نومة لا حلم فيها، تجتث أصولهم وينفى فلهم إلى اليابس الجدد والنازح الثمد. ثم رجع عمرو بن كلثوم عنه وجمع قومه وقال:
ألا فاعلم أبيت اللعن أنّا ** أبيت اللعن نأبى ما تريد

تعلّم أن محملنا ثقيل ** وأنّ دبار كبّتنا شديد

وأنّا ليس حيٌّ من معدٍّ ** يقاومنا إذا لبس الحديد

فلما عاد الحارث الأعرج غزا بني تغلب، فاقتتلوا واشتد القتال بينهم، ثم انهزم الحارث وبنو غسان وقتل أخو الحارث في عدد كثير، فقال عمرو بن كلثوم:
هلاّ عطفت على أخيك إذا دعا ** بالثكل ويل أبيك يا ابن أبي شمر

فذق الذي جشّمت نفسك واعترف ** فيها أخاك وعامر بن أبي حجر

.يوم عين أباغ:

وهو بين المنذر بن ماء السماء وبين الحارث الأعرج بن أبي شمر جبلة، وقيل: أبو شمر عمرو بن جبلة بن الحارث بن حجر بن النعمان بن الحارث الأيهم بن الحارث بن مارية الغساني، وقيل في نسبه غير هذا، وقيل: هو أزدي تغلب على غسان؛ والأول أكثر وأصح، وهو الذي طلب أدراع امرئ القيس من السموأل بن عادياء وقتل ابنه، وقيل غيره، والله أعلم.
وسبب ذلك أن المنذر بن ماء السماء ملك العرب سار من الحيرة في معد كلها حتى نزل بعين أباغ بذات الخيار وأرسل إلى الحارث الأعرج بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بنجفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر الغساني ملك العرب بالشام: أما أن تعطيني الفدية فأنصرف عنك بجنودي، وإما أن تأذن بحربٍ.
فأرسل إليه الحارث: أنظرنا ننظر في أمرنا. فجمع عساكره وسار نحو المنذر وأرسل إليه يقول له: إنا شيخان فلا نهلك جنودي وجنودك ولكن يخرج رجل من ولدي ويخرج رجل من ولدي ويخرج رجل من ولدك فمن قتل خرج عوضه آخر، وإذا فني أولادنا خرجت أنا إليك فمن قتل صاحبه ذهب بالملك. فتعاهدا على ذلك، فعمد المنذر إلى رجل من شجعان أصحابه فأمره أن يخرج فيقف بين الصفين ويظهر أنه ابن المنذر، فلما خرج أخرج إليه الحارث ابنه أبا كرب، فلما رآه رجع إلى أبيه وقال: إن هذا ليس بابن المنذر إنما هو عبده أو بعض شجعان أصحابه، فقال: يا بني أجزعت من الموت؟ ما كان الشيخ ليغدر. فعاد إليه وقاتله فقتله الفارس وألقى رأسه بين يدي المنذر، وعاد فأمر الحارث ابناً له آخر بقتاله والطلب بثأر أخيه، فخرج إليه، فلما واقفه رجع إلى أبيه وقال: يا أبت هذا والله عبد المنذر. فقال: يا بني ما كان الشيخ ليغدر. فعاد إليه فشد عليه فقتله.
فلما رأى ذلك شمر بن عمرو الحنفي، وكانت أمه غسانية، وهو مع المنذر، قال: أيها الملك إن الغدر ليس من شيم الملوك ولا الكرام، وقد غدرت بابن عمك دفعتين. فغضب المنذر وأمر بإخراجه، فلحق بعسكر الحارث فأخبره، فقال له: سل حاجتك. فقال له: حلتك وخلتك. فلما كان الغد عبى الحارث أصحابه وحرضهم، وكان في أربعين ألفاً، واصطفوا للقتال، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل المنذر وهزمت جيوشه، فأمر الحارث بابنيه القتيلين فحملا على بعير بمنزلة العدلين، وجعل المنذر فوقهما فوداً وقال: يا لعلاوةٍ دون العدلين! فذهبت مثلاً؛ وسار إلى الحيرة فأنهبها وأحرقها ودفن ابنيه بها وبني الغريين عليهما في قول بعضهم، وفي ذلك اليوم يقول ابن أبي الرعلاء الضبياني:
كم تركنا بالعين عين أباغ ** من ملوكٍ وسوقةٍ أكفاء

أمطرتهم سحائب الموت تترى ** إنّ في الموت راحة الأشقياء

ليس من مات فاستراح بميت ** إنّما الميت ميّت الأحياء

.يوم مرج حليمة وقتل المنذر بن المنذر بن ماء السماء:

لما قتل المنذر بن ماء السماء، على ما تقدم، ملك بعده ابنه المنذر وتلقب الأسود، فلما استقر وثبت قدمه جمع عساكره وسار إلى الحارث الأعرج طالباً بثأر أبيه عنده، وبعث إليه: إنني قد أعددت لك الكهول، على الفحول. فأجابه الحارث: قد أعددت لك المرد على الجرد. فسار المنذر حتى نزل بمرج حليمة، فتركه من به من غسان للأسود، وإنما سمي مرج حليمة بحليمة ابنة الحارث الغساني، وسنذكر خبرها عند الفراغ من هذا اليوم.
ثم إن الحارث سار فنزل بالمرج أيضاً، فأمر أهل القرى التي في المرج أن يصنعوا الطعام لعسكره، ففعلوا ذلك وحملوه في الجفان وتركوه في العسكر، فكان الرجل يقاتل فإذا أراد الطعام جاء إلى تلك الجفان فأكل منها. فأقامت الحرب بين الأسود والحارث أياماً ينتصف بعضهم من بعض. فلما رأى الحارث ذلك قعد في قصره ودعا ابنته هنداً وأمرها فاتخذت طيباً كثيراً في الجفان وطبت به أصحابه، ثم نادى: يا فتيان غسان من قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي هنداً. فقال لبيد بن عمرو الغساني لأبيه: يا أبت أنا قاتل ملك الحيرة أو مقتول جونه لا محالة، ولست أرضى فرسي فأعطني فرسك الزيتية. فأعطاه فرسه. فلما زحف الناس واقتتلوا ساعةً شد لبيد على الٍود فضربه ضربة فألقاه عن فرسه وانهزم أصحابه في كل وجه، ونزل فاحتز رأسه وأقبل به إلى الحارث وهو على قصره ينظر إليهم، فألقى الرأس بين يديه. فقال له الحارث: شأنك بابنة عمك فقد زوجتكها. فقال: بل أنصرف فأواسي أصحابي بنفسي فإذا انصرف الناس انصرفت. فرجع فصادف أخاه الأسود قد رجع إليه الناس وهو يقاتل وقد اشتدت نكايته، فتقدم لبيد فقاتل فقتل، ولم يقتل في هذه الحرب بعد تلك الهزيمة غيره، وانهزمت لخم هزيمةً ثانيةً وقتلوا في كل وجه، وانصرفت غسان بأحسن ظفر.
وذكر أن الغبار في هذا اليوم اشتد وكثر حتى ستر الشمس وحتى ظهرت الكواكب المتباعدة عن مطالع الشمس لكثرة العساكر، لأن الأسود سار بعرب العراق أجمع، وسار الحارث بعرب الشام أجمع، وهذا اليوم من أشهر أيام العرب، وقد فخر به بعض شعراء غسان فقال:
يوم وادي حليمةٍ وازدلفنا ** بالعناجيج والرماح الظماء

إذ شحنّا أكفّنا من رقاقٍ ** رقّ من وقعها سنا السّحناء

وأتت هند بالخلوق إلى من ** كان ذا نجدةٍ وفضل غناء

ونصبنا الجفان في ساحة المر ** ج فملنا إلى جفانٍ ملاء

وقيل في قتله غير ما تقدم، ونحن نذكره.
قال بعض العلماء: وكان سببه أن الحارث بن أبي شمر جبلة بن الحارث الأعرج الغساني خطب إلى المنذر اللخمي ابنته وقصد انقطاع الحرب بين لخم وغسان، فزوجه المنذر ابنته هنداً، وكانت لا تريد الرجال، فصنعت بجلدها شبيهاً بالبرص وقالت لأبيها: أنا على هذه الحالة وتهديني لملك غسان؟ فندم على تزويجها فأمسكها. ثم إن الحارث أرسل يطلبها فمنعها أبوها واعتل عليه.
ثم إن المنذر خرج غازياً، فبعث الحارث بن أبي شمر جيشاً إلى الحيرة فانتهبها وأحرقها. فانصرف المنذر من غزاته لما بلغه من الخبر، فسار يريد غسان، وبلغ الخبر الحارث فجمع أصحابه وقومه فسار بهم فتوافقوا بعين أباغ فاصطفوا للقتال فاقتتلوا واشتد الأمر بين الطائفتين، فحملت ميمنة المنذر على ميسرة الحارث، وفيها ابنه فقتلوه، وانهزمت الميسرة، وحملت ميمنة الحارث على ميسرة المنذر فانهزم من بها وقتل مقدمها فروة بن مسعود ابن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وحملت غسان من القلب على المنذر فقتلوه وانهزم أصحابه في كل وجه، فقتل منهم بشر كثير وأسر خلق كثير. منهم من بني تميم ثم من بني حنظلة مائة أسير، منهم شأس ابن عبدة، فوفد أخوه علقمة بن عبدة الشاعر على الحارث يطلب إليه أن يطلق أخاه، ومدحه بقصيدته المشهورة التي أولها:
طحا بك قلبٌ في الحسان طروب ** بعيد الشباب عصر حان مشيب

تكلّفني ليلى وقد شطّ أهلها ** وعادت عوادٍ بيننا وخطوب

يقول فيها:
فإن تسألوني بالنساء فإنّني ** بصير بأدواء النساء طبيب

إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ** فليس له في ودّهنّ نصيب

يردن ثراء المال حيث وجدنه ** وشرخ الشباب عندهنّ عجيب

وقاتل من غسّان أهل حفاظها ** وهنبٌ وفاسٌ جالدت وشبيب

تخشخش أبدان الحديد عليهم ** كما خشخشت يبس الحصاد جنوب

فلم تنج إلا شطبةٌ بلجامها ** وإلاّ طمرٌّ كالقناة نجب

وإلاّ كميٌّ ذو حفاظٍ كأنّه ** بما ابتلّ من حدّ الظّبات خضيب

وفي كلّ حيٍّ قد خبطت بنعمةٍ ** فحقّ لشأسٍ من نداك ذنوب

فلا تحرمني نائلاً عن جنابةٍ ** فإنّي امرؤٌ وسط القباب غريب

فلما بلغ إلى قوله: فحق لشأس من نداك ذنوب، قال الملك: إي والله وأذنبةٌ، ثم أطلق شأساً وقال له: إن شئت الحباء وإن شئت أسراء قومك؟ وقال لجلسائه: إن اختار الحباء على قومه فلا خير فيه. فقال: أيها الملك ما كنت لأختار على قومي شيئاً. فأطلق له الأسرى من تميم وكساه وحباه، وفعل ذلك بالأسرى جميعهم وزودهم زاداً كثيراً. فلما بلغوا بلادهم أعطوا جميع ذلك لشأس وقالوا: أنت كنت السبب في إطلاقنا فاستعن بهذا على دهرك، فحصل له مال كثير من إبل وكسوة وغير ذلك.
عبدة بفتح العين والباء الموحدة.
وقيل في قتله: إنه جمع عسكراً ضخماً وسار حتى نزل الشام، وسار ملك الشام، وهو عند الأكثر الحارث بن أبي شمر، فنزل مرج حليمة، وهو ينسب إلى حليمة بنت الملك، ونزل الملك اللخمي في مرج الصفر، فسير الحارث فارسين طليعةً، أحدهما فارس خصاف، وكانت فرسه تجري على ثلاث فلا تلحق، فسارا حتى خالطا القوم وقربا من الملك وأمامه شمعة فقتلا حاملها. ففزع القوم فاضطربوا بأسيافهم فقتل بعضهم بعضاً حتى أصبحوا، وأتاهم رسل الحارث ملك غسان ببذل الصلح والإتاوة وقال: إني باعث رؤوس القبائل لتقرير الحال، وندب أصحابه، فانتدب له مائة غلام، وقي: ثمانون غلاماً، فألبسهم السلاح وأمر ابنته حليمة أن تطيبهم وتلبسهم، ففعلت. فلما مر بها لبيد بن عمرو فارس الزيتية قبلها، فأتت أباها باكيةً، فقال: هو أسد القوم ولئن سلم لأنكحنه إياك، وأمره على القوم وساروا، فلما قاربوا العسكر العراقي جمع الملك رؤوس أصحابه. وجاء الغسانيون وعليهم السلاح قد لبسوا فوقها الثياب والبرانس، فلما تتاموا عند الملك أبدوا السلاح فقتلوا من وجدوا، وقتل لبيد بن عمرو ملك العراقيين وأحيط بالغسانيين فقتلوا إلا لبيد بن عمرو، فإن فرسه لم تبرح، فاستوى عليها، وعاد فأخبر الملك، فقال له: قد أنكحتك ابنتي حليمة. فقال: لا يتحدث الناس أني فل مائة، ثم عاد إلى القوم فقاتل فقتل. وتفقد أهل العراق أشرافهم وإذا بهم قد قتلوا فضعفت نفوسهم لذلك وزحفت إليهم غسان فانهزموا.
قلت: قد اختلف النسابون وأهل السير في مدة الأيام وتقديم بعضها على بعض، واختلفوا أيضاً في المقتول فيها، فمنهم من يقول: إن يوم حليمة هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن ماء السماء، ويوم أباغ هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن المنذر، ومنهم من يقول بضد ذلك، ومنهم من يجعل اليومين واحداً فيقول: لم يقتل إلا المنذر بن ماء السماء. وأما ابنه المنذر فمات بالحيرة، وقيل: إن المقتول من ملوك الحيرة غيرهما، فالصحيح أن المقتول هو المنذر بن ماء السماء لا شك فيه، وأما ابنه ففيه خلاف كثير، والأصح أنه لم يقتل، ومن أثبت قتله اختلفوا في سببه، على ما ذكرناه.
وإنما ذكرت اختلافهم والحادثة واحدة لأن كل سبب منها قد ذكره بعض العلماء، فمتى تركنا أحدهما ظن من ليس له معرفة أن كل سبب منها حادث مستقل. وقد أهملناه، فأتينا بها جميعاً لذلك ونبهنا عليه.

.ذكر قتل مضرط الحجارة:

وهو عمرو بن المنذر بن ماء السماء اللخمي صاحب الحيرة، وكان يلقب مضرط الحجارة لشدة ملكه وقوة سياسته، وأمه هند بنت الحارث بن عمرو المقصور بن آكل المرار، وهي عمة امرئ القيس بن حجر بن الحارث.
وكان سبب قتله أنه قال يوماً لجلسائه: هل تعلمون أن أحداً من العرب من أهل مملكتي يأنف أن تخدم أمه أمي؟ قالوا: ما نعرفه إلا أن يكون عمرو بن كلثوم التغلبي، فإن أمه ليلى بنت مهلهل بن ربيعة، وعملها كليب وائل، وزوجها كلثوم، وابنها عمرو. فسكت مضرط الحجارة على ما في نفسه وبعث إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويأمره أن تزور أمه ليلى أم نفسه هنداً بنت الحارث. فقدم عمرو بن كلثوم في فرسان من بني تغلب ومعه أمه ليلى، فنزل على شاطئ الفرات، وبلغ عمرو بن هند قدومه فأمر فضربت خيامه بين الحيرة والفرات وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فصنع لهم طعاماً ثم دعا الناس إليه فقرب إليهم الطعام على باب السرادق، وجلس هو وعمرو بن كلثوم معها في القبة، وقد قال مضرط الحجارة لأمه: إذا فرغ الناس من الطعام ولم يبق إلا الطرف فنحي خدمك عنك، فإذا دنا الطرف فاستخدمي ليلى ومريها فلتناولك الشيء بعد الشيء.
ففعلت هند ما أمرها به ابنها، فلما استدعي الطرف قالت هند لليلى: ناوليني ذلك الطبق. فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها. فألحت عليها. فقالت ليلى: واذلاه يا آل تغلب! فسمعها ولدها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه والقوم يشربون، فعرف عمرو بن هند الشر في وجهه، وثار ابن كلثوم إلى سيف ابن هند وهو معلق في السرادق، وليس هناك سيف غيره، فأخذه ثم ضرب به رأس مضرط الحجارة فقتله، وخرج فنادى: يا آل تغلب! فانتهبوا ماله وخيله وسبوا النساء وساروا فلحقوا بالحيرة، فقال أفنون التغلبي.
لعمرك ما عمرو بن هندٍ وقد دعا ** لتخدم ليلى أمّه بموفّق

فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتاً ** وأمسك من ندمانه بالمخنّق

.يوم الكلاب الأول:

قال ابن الكلبي: أول من اشتد ملكه من كندة حجر آكل المرار ابن عمرو بن معاوية بن الحارث الكندي، فلما هلك ملك بعده ابنه عمور مثل ملك أبيه فسمي المقصور لأنه قصر على ملك أبيه، فتزوج عمرو أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني، فولدت له الحارث، فملك بعد أبيه أربعين سنة، وقيل: ستين سنة، فخرج يتصيد فرأى عانة وهي حمر الوحش، فشد عليها، فانفرد منها حمار، فتتبعه وأقسم أن لا يأكل شيئاً قبل كبده، وهو بمسحلان، فطلبته الخيل ثلاثة أيام حتى أدركته، فأتي به وقد كادي موت من الجوع، فشوي على النار وأطعم من كبده وهي حارة، فمات، وكان الحارث فرق بنيه في قبائل معد، فجعل حجراً في بني أسد وكنانة، وهو أكبر ولده؛ وجعل شرحبيل في بكر بن وائل وبني حنظلة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم وبني أسيد بن عمرو بن تيمم، والرباب؛ وجعل سلمة، وهو أصغرهم، في بني تغلب والنمر بن قاسط وبني سعد بن زيد مناة بن تميم؛ وجعل ابنه معدي كرب، ويعرف بغلفاء، في قيس عيلان، وقد تقدم هذا في قتل حجر أبي امرئ القيس، وإنما أعدناه ها هنا للحاجة إليه.
فلما هلك الحارث تشتت أمر أولاده وتفرقت كلمتهم ومشى بينهم الرجال، وكانت المغاورة بين الأحياء الذين معهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش، فسار شرحبيل فيمن معه من الجيوش فنزل الكلاب، وهو ماء بين البصرة والكوفة. وأقبل سلمة فيمن معه وفي الصنائع أيضاً، وهم قوم كانوا مع الملوك من شذاذ العرب، فأقبلوا إلى الكلاب وعلى تغلب السفاح بن خالد بن كعب ابن زهير، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وثبت بعضهم لبعض. فلما كان آخر النهار من ذلك اليوم خذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل وانهزموا، وثبتت بكر وانصرفت بنو سعد ومن معها عن تغلب وصبرت تغلب، ونادى منادي شرحبيل: من أتاني برأس سلمة فله مائة من الإبل، ونادى منادي سلمة: من أتاني برأس شرحبيل فله مائة من الإبل. فاشتد القتال حينئذ كل يطلب أن يظفر لعله يصل إلى قتل أحد الرجلين ليأخذ مائة من الإبل. فكانت الغلبة آخر النهار لتغلب وسلمة، ومضى شرحبيل منهزماً، فتبعه ذو السنينة التغلبي، فالتفت إليه شرحبيل فضربه على ركبته فأطن رجله، وكان ذو السنينة أخا أبي حنش لأمه، فقال لأخيه: قتلني الرجل! وهلك ذو السنينة! فقال أبو حنش لشرحبيل: قتلني الله إن لم أقتلك! وحمل عليه فأدركه،فقال: يا أبا حنش اللبن اللبن! يعني الدية. فقال: قد هرقت لبناً كثيراً! فقال: يا أبا حنش املكاً بسوقة؟ فقال: إن أخي ملكي. فطعنه فأقاه عن فرسه ونزل إليه فأخذ رأسه وبعث به إلى سلمة مع ابن عم له، فأتاه به وألقان بين يديه، فقال سلمة: لو كنت ألقيته أرفق من هذا! وعرفت الندامة في وجه سلمة والجزع عليه. فهرب أبو حنش منه، فقال سلمة:
ألا أبلغ أبا حنشٍ رسولاً ** فما لك لا تجيء إلى الثّواب

لتعلم أنّ خير الناس طرّاً ** قتيلٌ بين أحجار الكلاب

تداعت حوله جشم بن بكر ** وأسلمه جعاسيس الرّباب

فأجابه أبو حنش فقال:
أحاذر أن أجيئك ثم تحبو ** حباء أبيك يوم صنيبعات

وكانت غدرةٌ شنعاء تهفو ** تقلّدها أبوك إلى الممات

وكان سبب يوم صنيبعات أن ابناً للحارث كان مسترضعاً في تميم وبكر ولدغته حية فمات، فأخذ خمسين رجلاً من تميم وخمسين رجلاً من بكر فقتلهم به. ولما قتل شرحبيل قام بنو زيد مناة بن تميم دون أهله وعياله فمنعوهم وحالوا بين الناس وبينهم حتى ألحقوهم بقومهم ومأمنهم؛ ولما بلغ خبر قتله أخاه معدي كرب، وهو غلفاء، قال يرثيه:
إنّ جنبي عن الفراش لنابي ** كتجافي الأسرّ فوق الظّراب

من حديثٍ نمى إليّ فما تر ** قأ عيني ولا أسيغ شرابي

مرّة كالذّعاف أكتمها النا ** س على حرّملّة كالشهاب

من شرحبيل إذ تعاوره الأر ** ماح من بعد لذّةٍ وشباب

يا ابن أمي ولو شهدتك إذ تد ** عو تميماً وأنت غير مجاب

ثمّ طاعنت من ورائك حتّى ** يبلغ الرحب أو تبزّ ثيابي

أحسنت وائلٌ وعادتها الإح ** سان بالحنو يوم ضرب الرقاب

يوم فرّت بنو تميم وولّت ** خيلهم يكتسعن بالأذناب

وهي طويلة؛ ثم إن تغلب أخرجوا سلمة من بينهم فلجأ إلى بكر بن وائل وانضم إليهم، ولحقت تغلب بالمنذر بن امرئ القيس اللخمي.
الكلاب بضم الكاف. أسيد بن عمرو بضم الهمزة، وفتح السين المهملة، وتشديد الياء المثناة من تحت. وذو السنينة بضم السين المهملة، تصغير سن. والرباب بكسر الراء، وتخفيف الباء الأولى الموحدة.

.يوم أوارة الأول:

وهو يوم كان بين المنذر بن امرئ القيس وبين بكر بن وائل. وكان سببه أن تغلب لما أخرجت سلمة بن الحارث عنها التجأ إلى بكر ابن وائل، كما ذكرناه آنفاً، فلما صار عند بكر أذعنت له وحشدت عليه وقالوا: لا يملكنا غيرك، فبعث إليهم المنذر يدعوهم إلى طاعته، فأبوا ذلك، فحلف المنذر ليسيرن إليهم فإن ظفر بهم فليذبحنهم على قلة جبل أوارة حتى يبلغ الدم الحضيض.
وسار إليهم في جموعه، فالتقوا بأوارة فاقتتلوا قتالاً شديداً وأجلت الواقعة عن هزيمة بكر وأسر يزيد بن شرحبيل الكندي، فأمر المنذر بقتله، فقتل، وقتل في المعركة بشرٌ كثير، وأسر المنذر من بكر أسرى كثيراً فأمر بهم فذبحوا على جبل أوارة، فجعل الدم يجمد. فقيل له: أبيت اللعن لو ذبحت كل بكري على وجه الأرض لم تبلغ دماؤهم الحضيض! ولكن لو صببت عليه الماء! ففعل فسال الدم إلى الحضيض، وأمر بالنساء أن يحرقن بالنار.
وكان رجل من قيس بن ثعلبة منقطعاً إلى المنذر، فكلمه في سبي بكر ابن وائل، فأطلقهن المنذر، فقال الأعشى يفتخر بشفاعة القيسي إلى المنذر في بكر:
ومنّا الذي أعطاه بالجمع ربّه ** على فاقةٍ وللملوك هباتها

سبايا بني شيبان يوم أوارةٍ ** على النار إذ تجلى له فتياتها